يقول وارين بوفيت ثانى أغنى رجل فى العالم: «إن صمتى لا يعنى جهلى بما يدور حولى، لكن ما يدور حولى لا يستحق الكلام». بهذا المنطق يصمت الدكتور مصطفى الرفاعى كثيرًا على خناقات مجلس الشعب،
وشائعات مرشحى الرئاسة وحروبهم المشروعة والممنوعة، وحكايات السلفيين ونوادرهم، واتهامات الفلول للثوار، وردود الثوار على الفلول، ونمائم أهل المال والنفوذ، لكنه لا يستطيع أن يصمت عندما يكون الحديث عن الصناعة، فالصناعة حلمه وأمله وفكره ومشروع حياته.
كان ولايزال شخصية انفجارية.. لا يعترف بالعلاقات الدبلوماسية، ولا يحب اللف ولا يجيد الدوران. صريح ومباشر وحاد وليس لديه أى حسابات ولا يقبل الضغوط مهما كان شأن ومكانة أصحابها، لذا لم يطل به المقام فى موقع المسئولية رغم أنه أكثر وعياً وأعظم جهداً من كثيرين عمروا فوق كرسى الوزارة.
تولى الدكتور مصطفى الرفاعى وزارة الصناعة خلال الفترة من 1999 إلى 2001 وهى فترة حرجة نشبت فيها الكثير من الخلافات فى وجهات النظر بين مصر والاتحاد الأوروبي. وقد واجه الرجل خلال فترة وزارته انتقادات واسعة وحادة لبرنامج تحديث الصناعة، والذى كان أحد بنود اتفاقية المشاركة المصرية الأوروبية، كما هاجم الرجل معظم رجال الأعمال واعتبرهم أمثلة واضحة على الانتهازية وحب الظهور حتى لقبه البعض بـ «عدو رجال الأعمال».
وللرجل قصة شهيرة فى إحدى لجان مجلس الشعب عندما دخل فى مناقشة حامية مع رجل الصناعة المهندس أحمد عز ولم يعجبه ما طرحه من أفكار فصرخ فيه «قل لنا. انت مين اللى ساندك بالضبط عشان نعرف نتعامل معاك». وكان الوزير قد قام بإبعاد «عز» عن اتحاد الصناعات فور توليه الوزارة وكان «عز» وقتها يشغل منصب وكيل اتحاد الصناعات.
على طاولة صغيرة فرقتنا فى شقته بمصر الجديدة كان يضع كتاباً إنجليزياً لجون بركنز بعنوان «اعترافات قناص اقتصادى» من إصدار نيويورك تايمز ضمن مجموعة الكتب الأكثر مبيعاً. وكنت قد قرأت ملخصات سابقة للكتاب باللغة العربية، لكننى سألت الدكتور مصطفى الرفاعى وزير الصناعة الأسبق عن أهم اعترافات «بركنز» كقناص اقتصادى، فقال لى إن ذلك الرجل عمل كعميل لتدمير اقتصاديات الدول النامية لصالح الولايات المتحدة، وأن مهمته تمثلت فى إغراء تلك الدول بمشروعات كبرى غير ذات جدوى والحصول على قروض لتلك المشروعات وهى غير قادرة على السداد حتى تصبح خاضعة دائماً للإرادة الأمريكية. وقد شارك مؤلف الكتاب فى تلك العمليات فى الإكوادور وبنما وكولومبيا.
من هنا يؤكد وزير الصناعة الأسبق أن كثيراً مما تعانيه مصر فى الوقت الحالى من تدبير جهات ودول لا تقبل الصعود لمصر ولا ترضى لها الاستقرار السياسى والاقتصادى، إنه يرى واقع الصناعة والاقتصاد مفزعاً وأنه إن لم ينتبه الشرفاء لترنح كيانات الاقتصاد الكبرى، فإنها ستسقط سقوطاً يعيدنا عشرات العقود إلى الخلف.
وإلى نص الحوار:
< كيف يمكن قراءة المشهد الاقتصادى فى مصر؟ وهل يمكن للصناعة أن تقود عملية الإنقاذ؟
- الواقع الاقتصادى مفزع، ولا يمكن أن ندارى ذلك، لأن التحرك لإنقاذ مصر يتطلب وعيًا بما يحدث. هناك كثير من المؤشرات المقلقة اقتصاديًا ربما أبرزها ارتفاع الدين المحلى إلى نحو 90٪ من الناتج الإجمالى وتراجع معدل النمو إلى 1.7٪، فضلاً عن استنزاف احتياطى النقد الأجنبى بالبنك المركزى بمعدل مليارى دولار سنوياً. ومن هنا وجب الالتفات بسرعة نحو ما يجرى للاقتصاد المصرى. إنه ينهار ولابد من وقفة تشارك فيها كل القوى السياسية. لم يعد هناك مجال للعبث بمقدرات الوطن. نقول للجميع ساسة وشباباً عمالاً: اتقوا الله فى مصر.
< ماذا عليهم أن يفعلوا؟
- عليهم أن يوقفوا الصراعات والخلافات والمظاهرات والاتهامات المتبادلة ويجتمعوا على خطة إنقاذ سريعة وحاسمة للاقتصاد المصرى المترنح والذى لو سقط لسقطت مصر. إن انهار الاقتصاد المصرى هو الانهيار الحقيقى لمصر، وما أخشاه أن يكون مصيرنا كمصير بعض دول أوروبا الشرقية خلال نهايات القرن الماضى. إننى أدعو الأحزاب السياسية والبرلمان والحكومة وجميع الهيئات والمؤسسات الوطنية أن تجتمع لوضع خطوات تنفيذية لإنقاذ الاقتصاد، ولا شك أن قطاع الصناعة أحد أهم القطاعات التى يمكنها أن تلعب دوراً فى ذلك. إننى أتعجب أن مرشحى الرئاسة بلا استثناء لم يقدموا أى أطروحات أو برامج لخروج مصر فى الكبوة الاقتصادية التى أثرت على الصناعة والطاقة والسياحة.
< هل تتصور أن الأزمات الجارية على الساحة الاقتصادية مفتعلة؟
- ليست مفتعلة ولكنها مدبرة. هناك دول عديدة لا تقبل باستقرار مصر لأن استقرارها يمثل منافسة اقتصادية إقليمية، لأننا دولة لها تاريخ ولديها مقومات إقامة صناعة واعدة. وعلينا أن نعرف أن الدول الكبرى لا يهمها تنمية مصر أو حل مشكلاتها وإنما تهتم فقط بمصالحها، وما لم نفكر نحن فى حلول سريعة فقد يفوت الأوان.
< إلى أى مدى تعاونت حكومات نظام مبارك مع الصناعة؟ وكيف كان يدار ذلك القطاع الاستراتيجى؟
- الصناعة المصرية كانت من إهمال الدولة وتجاهلها التام خلال الـ 15 عاماً الأخيرة، ولقد كنت شاهداً شخصياً على أنها خارج أولويات الحكومات المتعاقبة. لقد كانت الصناعة تحظى برعاية مهمة خلال أواخر عهد الرئيس السادات الذى أنشأ المدن الصناعية الجديدة وفتح الباب لبداية نهضة صناعية كبيرة ساعد على تحقيقها منح المشروعات الاستثمارية فى المدن الجديدة حوافز استثمار وصلت إلى عشر سنوات، وللأسف الشديد فإن الرأسمالية الصاعدة والمتصلة بدوائر الحكم أنهت تلك الحوافز حتى لا تسمح بقيام كيانات اقتصادية منافسة وكان ذلك من خلال قانون الضرائب الذى صدر عام 2004.
وأستطيع أن أؤكد أن تركيز الدولة خلال السنوات الأخيرة من عمر النظام السابق كان منصبًا على قطاع الخدمات وقطاع التجارة، وربما كان المهندس رشيد محمد رشيد الوزير السابق هو الأصدق فى التعبير عن توجهات الدولة عندما تولى حقيبة الصناعة فحوَّل اسم وزارته من وزارة الصناعة والتنمية التكنولوجية إلى وزارة التجارة والصناعة معترفاً بأن التجارة مقدمة على الصناعة.
< لكن اسمح لى فإن تلك الحكومات حققت زيادة كبيرة فى صادرات مصر؟
- هذا صحيحاً ولكن لم ترتبط تلك الزيادة بارتفاع فى نسبة القيمة المضافة للصناعة وكأن الأمر أشبه بتجارة ترانزيت، وفى تصورى فإن لكل دولة ظروفها ومصر دون القطاع الصناعى لا تساوى شيئاً. الصناعة هى قاطرة التقدم والتنمية وأداة الارتقاء بالإنسان والمشغل الأول للأيدى العاملة.
< هل تمتلك مصر مقومات حقيقية لإقامة صناعات واعدة؟
- بالطبع لدينا كثير من الخامات الزراعية والتعدينية ولدينا أيد عاملة وفيرة، ولدينا فوق كل ذلك أكبر سوق استهلاكي في المنطقة، لأننا أكبر دولة عربية في التعداد، ومن هنا فإنه كان ينبغي أن نستفيد الاستفادة القصوي من تلك المزايا بدلاً من ترك السوق المصري فريسة للاقتصاديات المنافسة.
< وكيف تشخص الواقع الصناعي في الوقت الراهن؟
- لاشك أن السنوات الست الأخيرة شهدت عمليات إغلاق وإفلاس واسعة في القطاع الخاص الصناعي، وقد طالبنا الحكومات السابقة بأن تفصح عن الأسباب الحقيقية لإغلاق تلك المصانع ولم نتلق إجابة لأن أحداً لم يكن مهتماً، ولا شك أن ما جري بعد الثورة من اضطرابات وانفلاتات أمنية أدي إلي زيادة أعداد المصانع المتوقفة عن العمل لتصل إلي أكثر من الضعف في أقل من عام واحد، وهو أمر في غاية الخطورة وللأسف لا يحظي بالاهتمام اللازم.
< ألا تعتبر أن بعض الاعتصامات العمالية والإضرابات كان لها وجاهتها لإنصاف عمالة ظلت سنوات طويلة مظلومة ومحرومة من حقوقها؟
- لا.. كنت أتوقع أن يكون العمال أكثر محبة لمصر وأحرص علي مستقبلها خلال تلك الفترة العصيبة التي تمر بها، إنني لا أبريء أي عمل يؤثر علي قواعد الإنتاج ولا أراه إلا خيانة، وأنا أعلم أن بعض التحركات العمالية كانت مشبوهة وكانت تتم بتدبير من منظمات أمريكية، وبعض قيادات النظام السابق.
< من وجهة نظرك كيف يمكن مواجهة الموقف المتردي في قطاع الصناعة؟
- أولاً: يجب تجريم الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات داخل المصانع بعقوبات فورية حازمة لأن التأثير السلبي علي قواعد الإنتاج في مثل هذا الوقت خيانة.. ثانياً: يجب تأمين المصانع والطرق المؤدية لها وحركة نقل البضائع والسلع وحركة الشحن في الموانئ.. ثالثاً: علي الحكومة أن تضع خطة تطهير ثورية تستهدف رموز الفساد في مختلف القطاعات الاقتصادية وغير الاقتصادية لأن وجود هؤلاء مخرب للاقتصاد القومي، كذلك لابد من وضع خطط تنفيذية سريعة لمشروعات اقتصادية كبري يحتشد فيها المصريون بمختلف فئاتهم للمشاركة في تنمية الاقتصاد وتحريره من التبعية.
< ولكن ما المشروعات التي يمكن اعتبارها في الوقت الحالي مشروعات كبري؟
- كثيرة جداً.. لقد قدمت مثلاً لرئيس الوزراء مشروعاً كبيراً لتنمية سيناء اقتصادياً وصناعياً، وهناك كثيرون عرضوا وطرحوا مشروعات مماثلة.
< كيف تقيم سياسات وزارة الصناعة قبل وبعد الثورة؟
- لقد قلت إن قطاع الصناعة كان خارج اهتمام الدولة في عهد مبارك، لكن ما يهمني الإشارة إليه أن سياسات وقرارات وزير الصناعة الحالي الدكتور محمود عيسي تسير في الاتجاه الصحيح وتحقق دعماً ومساندة حقيقية للصناعة الوطنية، وما أتمناه أن تتمكن الوزارة من استكمال مشروع بناء مراكز التكنولوجيا الصناعية الذي بدأناه عام 2000 وتعطل دون أسباب واضحة.
< لقد كنت أحد الوزراء الذين حذروا من اتساع نفوذ رجال الأعمال وتدخلهم في السياسة.. ما الذي دفعك إلي ذلك الاعتقاد مبكراً؟.. وهل مازلت عند رأيك؟
- لقد كنت أري كثيراً من التصرفات الغريبة التي تؤكد أن نفوذ رجال الأعمال يتجاوز الوزراء والمسئولين، وكان بعض رجال الأعمال الموجودين حالياً في السجن علي علاقة صداقة بجمال مبارك نجل الرئيس السابق، وكان بعضهم يستغل تلك العلاقة في جني مكاسب وأرباح، وكان جمال نفسه يتخذ كثيراً من القرارات بضغط من هؤلاء وكثيراً ما كانت تلك القرارات تتعارض مع المصلحة العامة، بل كانت في بعض الأحيان تخالف تعليمات والده، وأتذكر أن الرئيس مبارك وافق علي تخصيص 500 مليون جنيه لأول صندوق وطني لتحديث الصناعة وأعلنا عن ذلك، إلا أنني فوجئت بوقف الدعم وتخصيص نصف مليار جنيه لبرنامج دعم تصدير قدمه يوسف بطرس غالي، وعلمت بعد ذلك أن جمال مبارك وراء وقف التخصيص.. وبالطبع فأنا مازلت عند رأيي بضرورة الفصل بين البيزنس والسياسة.. إن زواج السلطة بالمال غالباً ما يؤدي إلي فساد شديد وظلم أشد.
< من وجهة نظرك كيف يمكن تحديث الصناعة؟
- لقد وضعت خطة عمل عندما كنت وزيراً لوضع سياسات حازمة تحقق تحويل برنامج تحديث الصناعة إلي برنامج وطني يفيد الصناعة بالفعل، وكانت أبرز ما تضمنه وضع مخططات لتحديث 50 شركة كل ستة أشهر وتدريب مدربين في 30 مركز تدريب صناعي لتوفير كوادر تدريبية لمختلف المصانع، وإنشاء مراكز لتنمية الأعمال وتوزيعها جغرافياً بحيث يتم توصيل الخدمة لمختلف أنحاء الجمهورية، وتعظيم الاستفادة من المعامل وإمكانيات القياس والمعايرة المتوفرة بالشركات والجامعات ومراكز البحوث والعمل علي الترويج للمنتجات المصرية في مختلف الأسواق الخارجية، وقد حققنا بالفعل بعض النتائج التي كنا نأملها، إلا أن تجاهل الحكومة لتخصيص مخصصات للمشروع حَّوله إلي كيان لا يفيد إلا الكيانات الكبري.. وأتصور أن الفرصة مازالت مواتية لتفعيل عملية تحديث الصناعة الذي أري أنه يحسن أن يكون في إطار دراسات قطاعية تؤدي إلي خطة رئيسية «ماستر بلان» للعمل المشترك بين الدولة والقطاع الخاص.
< لو كنت وزيراً للصناعة في الوقت الحالي.. ما هو القرار الذي تراه لازماً؟
- أعتقد أن الظروف الحالية تعد ظروفاً استثنائية لذا فإنها تعطينا الحق في وقف بعض بنود الاتفاقيات الأوروبية والعربية، وقفاً مؤقتاً للحد من دخول السلع الأجنبية إلي السوق المحلي وتقليل الضغط علي العملة الأجنبية، وأتصور أننا نحتاج لقرارات إصلاح حازمة فيما يخص حماية صحة المستهلك المصري، وقد أصدرت خلال عملي بالوزارة قرارات في هذا الإطار ربما أشهرها قرار بسترة الألبان، وقرار حظر تداول ملح السياحات.
- Digg
- Delicious
- StumbleUpon
- Facebook