بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الافتتاحيَّة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد:
إنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ طلب العلم والتَّفقه في الدِّين من أسمى الأعمال الَّتي يتقرب بها العبد المؤمن إلى الله -عزَّ وجلَّ-، والنَّاظر هنا يلاحظ أنَّ العلم وطلبه هما أسمى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات ومن أولى ما علقت به الرَّغبات لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله -تعالى- أيضًا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمر: 9]، وقول النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين» [متفقٌ عليه].
إنَّ العلم أخي الحبيب ضرورةٌ حتميَّةٌ، ومطلبٌ جدُّ عظيم يحتاج إليه سائر طوائف النَّاس على اختلافهم كالحكام والآباء والأمَّهات والتُّجار وأرباب الحرف والصّناع وغيرهم كثيرون.
ولا يستغني عن العلم طبقة من طبقات الناس ولله درُّ القائل:
تعلَّم إذا ما كنت ليس بعالمٍ***فما العلم إلا عند أهل التَّعلم
تعلَّم، فإنَّ العلم زين لأهله***ولن تستطيع العلم إن لم تعلم
تعلم فإنَّ العلم أزين بالغنى***من الحلَّة الحسناء عند التَّكلم
ولا خير فيمن راح ليس بالعالم***بصيرٌ بما يأتي ولا متعلَّم
وقد رفع الله -عزَّ وجلَّ- درجة العلماء العاملين فبالعلم يصلح الله المجتمعات والشُّعوب الَّتي وقع فيها فسادٌ كبيرٌ، وينجي من المهالك خلقًا كثيرًا، وبالعلم يعرف الإنسان مراتب الأعمال، ودرجاتها المحرَّمة والمكروهة والمندوبة وما هو من المعاصي في مرتبة الكبائر وما هو في مرتبة الصَّغائر.
ويكفي في شرف العلم وأهله أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قرن شهادة العلماء بشهادة الملائكة في الإقرار بوحدانية الله -تعالى-، قال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وفي السُّنَّة وردت آثار طوال في فضل العلم وأهله، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ مثل ما بعثني الله به -عزَّ وجلَّ- من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منه طائفةٌ طيبِّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النَّاس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنَّما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الَّذي أرسلت به» [رواه مسلم 2282].
وعن أبي هريره -رضي الله عنه- قال: قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنَّة» [أخرجه ابن ماجه 183 وصحَّحه الألباني].
ورثة الأنبياء
إنَّ من تمام رحمة الله -سبحانه وتعالى- بهذه الأمَّة أن خصَّها ببعثة نبيِّ الرَّحمة محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فكانت بعثته من أعظم النِّعم على الأمَّة وأجلِّها، وإنَّ من تمام هذه النِّعمة توريث الله -عزَّ وجلَّ- العلماء علوم وآداب هذا النَّبيّ الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، فكانوا على مرِّ العصور، واختلاف الأزمنة والأمكنة ورثته القائمون في أمَّته بأمر التَّبليغ والتَّعليم، والتَّوعية والتَّوجيه، ولأجل ذلك كان على عامَّة المسلمين وخاصَّتهم طاعتهم في طاعة الله وموالاتهم واحترامهم والسَّير في طريقهم وهذا حال سلف الأمَّة على اختلاف أزمنتهم، فهم راسخون رسوخ الجبال الشَّوامخ، تستمد الأمَّة من هداهم وتقتبس من فيض نورهم في مواطن الزَّيغ والتِّيه.
لقد دلَّت آياتٌ عظيمةٌ وآثارٌ جليلةٌ على فضل العلم وأهله واعتبارهم ورثة الأنبياء حيث جعل الله العلم سببًا لنيل الطَّريق المؤدِّي إلى الجنَّة. ونيل أعلى المراتب فقال -جل وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، فالعلماء أمناء الله على خلقه، وهذا شرفٌ عظيمٌ ما بعده شرفٌ؛ لأنَّهم أطباء القلوب والأرواح والعقول كما للأبدان أطباء، فعن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالب العلم يستغفر له من في السَّماء والأرض حتَّى الحيتان في الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» [رواه ابن ماجه 183 وصححه الألباني].
والله درُّ القائل:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنَّهم***على الهدى لمن استهدى أدلَّاء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه***والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيًّا به أبدًا***النَّاس موتى وأهل العلم أحياء
وفي التَّنزيل قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فالخشية الكاملة التَّامَّة هي لأهل العلم والبصيرة، وأرفع النَّاس في ذلك هم الرُّسل والأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام ثمَّ يليهم أهل العلم على اختلافهم وتنوع معارفهم؛ لأنَّ صاحب العلم يراقب الله في كلِّ أموره سواء في طلبه للعلم أو في عمله بالعلم أو في نشره له، وفي كلِّ ما يلزم ذلك من حقِّ الله وحقِّ عباده، وقد ثبت أنَّ العلم في الدُّنيا مقرونٌ ببقائهم أحياء وأنَّ ذهابه بذهابهم فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتَّى إذا لم يبقَ عالمًا اتخذ النَّاس رؤوسا جهالًا فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا» [متفقٌ عليه].
آداب طالب العلم والمتعلِّم
اعلم هداك الله أنَّ طالب العلم يطلبه؛ لينفع نفسه أوَّلًا، ويؤدبها ويخلصها من أدران الجهالة والتِّيه، ويقترب إلى ربِّه -سبحانه وتعالى- طلبًا لطاعته على بصيرةٍ وقوَّةٍ درايةٍ، وصولًا لنفع النَّاس وهو الغاية المطلوبة من علمه وعمله، ويخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، ويصلح ذات بينهم، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى غير ذلك من شؤون المسلمين، فلابد أن يهئ نفسه لطلب العلم متأدبًا بآدابه لكي يقطف من ثماره، ويجني من محاسنه، ومن جملة الآداب ما يلي:
1- الحرص على التماس مجالس العلم، والاستفادة منها.
2- إصلاح النِّيَّة في طلب العلم مع التَّحلِّي بالصِّدق، وبذل الوسع من الوقت والجهد في تحصيله، الإعراض عن كلِّ تافهٍ يشغل عنه من بطالةٍ.
3- تزكية وتطهير النَّفس وسموها عن رذائل الأخلاق والابتعاد قدر المستطاع عن إتباع الأهواء ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السِّرِّ كما لا تصح الصَّلاة الَّتي هي وظيفة الجوارح إلا بتطهير الظَّاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عمارة القلوب إلا بعد طهارتها من خبائث الأخلاق وذميم الصِّفات قال الشَّاعر:
لا تحسبن العلم ينفع وحده***ما لم يتوَّج ربَّه بخلاق
4- المحافظة على الاتزان والهدوء والسَّمت الطَّيِّب في الملبس والمركب والمعاملات والابتعاد عن كلِّ ما يخل بذلك قال الشَّاعر:
بنور العلم يكشف كلّ ريبٍ***ويبصر وجه مطلبه المريدُ
فأهل العلم في رحبٍ وقربٍ***لهم ممَّا اشتهوا أبدًا مزيدُ
إذا عملوا بما علموا فكلٌ***له ممَّا ابتغاه ما يريدُ
فإن سكتوا ففكر في معادٍ***وإن نطقوا فقولهم سديدُ
5- الحرص على طلب العلم النَّافع المفيد للمسلمين في دينهم ودنياهم والابتعاد عن العلوم الَّتي تورث الفرقة وتزرع الشِّقاق ولا طائل من ورائها إلا جني الفتنة وضرر المسلم في دينه لقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشُّورى: 14].
وكان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول في دعائه: «اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجاب لها» [رواه مسلم 2722].
6- التَّبكير في طلب العلم والتَّوافد على مجالسه وملازمة الأكفاء الرَّاسخين فيه والتَّلقي عنهم وتقييده بالكتابة والحفظ؛ لأنَّه أدعى لصونه واستدعائه وقت الحاجة ولله درُّ القائل:
علمي معي حيثما يممت ينفعني***قلب وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي***أو كنت في السُّوق كان العلم في السُّوق
7- القيام بحقوق المعلم واحترامه وتوقيره والنَّظر إليه بعين الإكبار والإجلال، والتَّواضع له حتَّى ولو كان أصغر سنًا، يقول الإمام علي -كرم الله وجهه-: "ومن حقِّ العالم عليك أن تسلم على القوم عامَّةً وتخصُّه بالتَّحيَّة، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيديك، ولا تغمر بعينك غيره، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته، وإن زلَّ قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله -تعالى-، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسارر أحدًا في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا ملَّ ولا تشبع من طول صحبته، فإنَّما هو كالنخلة تنتظر ما يسقط عليك منها".
حال السَّلف مع العلم
لقد وعى السَّلف الصَّالح أهمية العلم والتَّعلِّم والسَّعي فيهما، لما لذلك من الضَّرورات الشّعرية والدَّلائل الإيمانية لقوله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقوله -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين» [متفقٌ عليه].
- ومن أقوال السلف في فضل العلم: يقول سفيان بن عيينة: "أرفع النَّاس منزلةً عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء".
- يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "العلم خيرٌ من المال؛ لأنَّ المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النَّفقة والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدَّهر.
أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة".
- يقول الزُّهري -رضي الله عنه-: "ما عُبد الله بشيءٍ أفضل من العلم".
- يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "النَّاس يحتاجون إلى العلم أكثر من الخبز والماء؛ لأنَّ العلم يحتاج إليه في كلِّ ساعةٍ، والخبز والماء في كلِّ يومٍ مرَّةً أو مرَّتين".
وعن عمر -رضي الله عنه-: "موت ألف عابد قائم الليل صائم النَّهار أهون من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه".
ولله درُّ القائل:
تعلَّم فليس المرء يولد عالمًا***وليس أخو علم كمن هو جاهلُ
وإنَّ كبير القوم لا علم عنده***صغيرٌ إذا التفت عليه الجحافل
وإنَّ صغير القوم إن كان عالمًا***كبيرٌ إذا ردت إليه المحافل
مجالس الذِّكر (رياض الجنَّة)
حلقات الذِّكر ومجالسه مظهرٌ من مظاهر العلم والتَّثقيف؛ لأنَّها خيرُ المجالس وأزكاها، وأعلاها منزلةً عند الله -عزَّ وجلَّ- .
قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرَّحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» [أخرجه مسلم 2699].
ومن شرف مجالس الذِّكر وعلو مكانتها أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُباهي بالذَّاكرين الملائكة، كما ثبت عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقةٍ في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أمَّا إنِّي لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أقل عنه حديثًا منِّي، وإنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- خرج على حلقةٍ من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟»، قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ! ما أجلسنا إلا ذاك، قال: «أمَّا إنَّي لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني؛ أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يباهي بكم الملائكة» [رواه مسلم 2701].
ومن ثمار مجالس الذِّكر أنَّها تحفظ اللسان وتصونه عن الغيبة والفحش والباطل.
الافتتاحيَّة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين والتَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد:
إنَّ ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ طلب العلم والتَّفقه في الدِّين من أسمى الأعمال الَّتي يتقرب بها العبد المؤمن إلى الله -عزَّ وجلَّ-، والنَّاظر هنا يلاحظ أنَّ العلم وطلبه هما أسمى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات ومن أولى ما علقت به الرَّغبات لقول الله -عزَّ وجلَّ-: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله -تعالى- أيضًا: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزُّمر: 9]، وقول النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين» [متفقٌ عليه].
إنَّ العلم أخي الحبيب ضرورةٌ حتميَّةٌ، ومطلبٌ جدُّ عظيم يحتاج إليه سائر طوائف النَّاس على اختلافهم كالحكام والآباء والأمَّهات والتُّجار وأرباب الحرف والصّناع وغيرهم كثيرون.
ولا يستغني عن العلم طبقة من طبقات الناس ولله درُّ القائل:
تعلَّم إذا ما كنت ليس بعالمٍ***فما العلم إلا عند أهل التَّعلم
تعلَّم، فإنَّ العلم زين لأهله***ولن تستطيع العلم إن لم تعلم
تعلم فإنَّ العلم أزين بالغنى***من الحلَّة الحسناء عند التَّكلم
ولا خير فيمن راح ليس بالعالم***بصيرٌ بما يأتي ولا متعلَّم
وقد رفع الله -عزَّ وجلَّ- درجة العلماء العاملين فبالعلم يصلح الله المجتمعات والشُّعوب الَّتي وقع فيها فسادٌ كبيرٌ، وينجي من المهالك خلقًا كثيرًا، وبالعلم يعرف الإنسان مراتب الأعمال، ودرجاتها المحرَّمة والمكروهة والمندوبة وما هو من المعاصي في مرتبة الكبائر وما هو في مرتبة الصَّغائر.
ويكفي في شرف العلم وأهله أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قرن شهادة العلماء بشهادة الملائكة في الإقرار بوحدانية الله -تعالى-، قال -تعالى-: {شَهِدَ اللَّـهُ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
وفي السُّنَّة وردت آثار طوال في فضل العلم وأهله، فعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «إنَّ مثل ما بعثني الله به -عزَّ وجلَّ- من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منه طائفةٌ طيبِّةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها النَّاس، فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنَّما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه بما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الَّذي أرسلت به» [رواه مسلم 2282].
وعن أبي هريره -رضي الله عنه- قال: قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنَّة» [أخرجه ابن ماجه 183 وصحَّحه الألباني].
ورثة الأنبياء
إنَّ من تمام رحمة الله -سبحانه وتعالى- بهذه الأمَّة أن خصَّها ببعثة نبيِّ الرَّحمة محمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم-، فكانت بعثته من أعظم النِّعم على الأمَّة وأجلِّها، وإنَّ من تمام هذه النِّعمة توريث الله -عزَّ وجلَّ- العلماء علوم وآداب هذا النَّبيّ الكريم -صلوات الله وسلامه عليه-، فكانوا على مرِّ العصور، واختلاف الأزمنة والأمكنة ورثته القائمون في أمَّته بأمر التَّبليغ والتَّعليم، والتَّوعية والتَّوجيه، ولأجل ذلك كان على عامَّة المسلمين وخاصَّتهم طاعتهم في طاعة الله وموالاتهم واحترامهم والسَّير في طريقهم وهذا حال سلف الأمَّة على اختلاف أزمنتهم، فهم راسخون رسوخ الجبال الشَّوامخ، تستمد الأمَّة من هداهم وتقتبس من فيض نورهم في مواطن الزَّيغ والتِّيه.
لقد دلَّت آياتٌ عظيمةٌ وآثارٌ جليلةٌ على فضل العلم وأهله واعتبارهم ورثة الأنبياء حيث جعل الله العلم سببًا لنيل الطَّريق المؤدِّي إلى الجنَّة. ونيل أعلى المراتب فقال -جل وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11]، فالعلماء أمناء الله على خلقه، وهذا شرفٌ عظيمٌ ما بعده شرفٌ؛ لأنَّهم أطباء القلوب والأرواح والعقول كما للأبدان أطباء، فعن أبي الدَّرداء -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإنَّ طالب العلم يستغفر له من في السَّماء والأرض حتَّى الحيتان في الماء، وإنَّ فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء، إنَّ الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» [رواه ابن ماجه 183 وصححه الألباني].
والله درُّ القائل:
ما الفخر إلا لأهل العلم إنَّهم***على الهدى لمن استهدى أدلَّاء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه***والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حيًّا به أبدًا***النَّاس موتى وأهل العلم أحياء
وفي التَّنزيل قال -تعالى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فالخشية الكاملة التَّامَّة هي لأهل العلم والبصيرة، وأرفع النَّاس في ذلك هم الرُّسل والأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام ثمَّ يليهم أهل العلم على اختلافهم وتنوع معارفهم؛ لأنَّ صاحب العلم يراقب الله في كلِّ أموره سواء في طلبه للعلم أو في عمله بالعلم أو في نشره له، وفي كلِّ ما يلزم ذلك من حقِّ الله وحقِّ عباده، وقد ثبت أنَّ العلم في الدُّنيا مقرونٌ ببقائهم أحياء وأنَّ ذهابه بذهابهم فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتَّى إذا لم يبقَ عالمًا اتخذ النَّاس رؤوسا جهالًا فسئلوا، فأفتوا بغير علمٍ، فضلوا وأضلوا» [متفقٌ عليه].
آداب طالب العلم والمتعلِّم
اعلم هداك الله أنَّ طالب العلم يطلبه؛ لينفع نفسه أوَّلًا، ويؤدبها ويخلصها من أدران الجهالة والتِّيه، ويقترب إلى ربِّه -سبحانه وتعالى- طلبًا لطاعته على بصيرةٍ وقوَّةٍ درايةٍ، وصولًا لنفع النَّاس وهو الغاية المطلوبة من علمه وعمله، ويخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، ويصلح ذات بينهم، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر إلى غير ذلك من شؤون المسلمين، فلابد أن يهئ نفسه لطلب العلم متأدبًا بآدابه لكي يقطف من ثماره، ويجني من محاسنه، ومن جملة الآداب ما يلي:
1- الحرص على التماس مجالس العلم، والاستفادة منها.
2- إصلاح النِّيَّة في طلب العلم مع التَّحلِّي بالصِّدق، وبذل الوسع من الوقت والجهد في تحصيله، الإعراض عن كلِّ تافهٍ يشغل عنه من بطالةٍ.
3- تزكية وتطهير النَّفس وسموها عن رذائل الأخلاق والابتعاد قدر المستطاع عن إتباع الأهواء ومذموم الأوصاف إذ العلم عبادة القلب وصلاة السِّرِّ كما لا تصح الصَّلاة الَّتي هي وظيفة الجوارح إلا بتطهير الظَّاهر عن الأحداث والأخباث فكذلك لا تصح عمارة القلوب إلا بعد طهارتها من خبائث الأخلاق وذميم الصِّفات قال الشَّاعر:
لا تحسبن العلم ينفع وحده***ما لم يتوَّج ربَّه بخلاق
4- المحافظة على الاتزان والهدوء والسَّمت الطَّيِّب في الملبس والمركب والمعاملات والابتعاد عن كلِّ ما يخل بذلك قال الشَّاعر:
بنور العلم يكشف كلّ ريبٍ***ويبصر وجه مطلبه المريدُ
فأهل العلم في رحبٍ وقربٍ***لهم ممَّا اشتهوا أبدًا مزيدُ
إذا عملوا بما علموا فكلٌ***له ممَّا ابتغاه ما يريدُ
فإن سكتوا ففكر في معادٍ***وإن نطقوا فقولهم سديدُ
5- الحرص على طلب العلم النَّافع المفيد للمسلمين في دينهم ودنياهم والابتعاد عن العلوم الَّتي تورث الفرقة وتزرع الشِّقاق ولا طائل من ورائها إلا جني الفتنة وضرر المسلم في دينه لقوله -عزَّ وجلَّ-: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشُّورى: 14].
وكان النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول في دعائه: «اللهمَّ إنِّي أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يستجاب لها» [رواه مسلم 2722].
6- التَّبكير في طلب العلم والتَّوافد على مجالسه وملازمة الأكفاء الرَّاسخين فيه والتَّلقي عنهم وتقييده بالكتابة والحفظ؛ لأنَّه أدعى لصونه واستدعائه وقت الحاجة ولله درُّ القائل:
علمي معي حيثما يممت ينفعني***قلب وعاء له لا بطن صندوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي***أو كنت في السُّوق كان العلم في السُّوق
7- القيام بحقوق المعلم واحترامه وتوقيره والنَّظر إليه بعين الإكبار والإجلال، والتَّواضع له حتَّى ولو كان أصغر سنًا، يقول الإمام علي -كرم الله وجهه-: "ومن حقِّ العالم عليك أن تسلم على القوم عامَّةً وتخصُّه بالتَّحيَّة، وأن تجلس أمامه، ولا تشيرن عنده بيديك، ولا تغمر بعينك غيره، ولا تقولن قال فلان خلاف قوله ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته، وإن زلَّ قبلت معذرته، وعليك أن توقره لله -تعالى-، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسارر أحدًا في مجلسه، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه إذا ملَّ ولا تشبع من طول صحبته، فإنَّما هو كالنخلة تنتظر ما يسقط عليك منها".
حال السَّلف مع العلم
لقد وعى السَّلف الصَّالح أهمية العلم والتَّعلِّم والسَّعي فيهما، لما لذلك من الضَّرورات الشّعرية والدَّلائل الإيمانية لقوله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّـهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28]، وقوله -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدِّين» [متفقٌ عليه].
- ومن أقوال السلف في فضل العلم: يقول سفيان بن عيينة: "أرفع النَّاس منزلةً عند الله من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء".
- يقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: "العلم خيرٌ من المال؛ لأنَّ المال تحرسه والعلم يحرسك، والمال تفنيه النَّفقة والعلم يزكو على الإنفاق، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، مات خزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدَّهر.
أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب موجودة".
- يقول الزُّهري -رضي الله عنه-: "ما عُبد الله بشيءٍ أفضل من العلم".
- يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: "النَّاس يحتاجون إلى العلم أكثر من الخبز والماء؛ لأنَّ العلم يحتاج إليه في كلِّ ساعةٍ، والخبز والماء في كلِّ يومٍ مرَّةً أو مرَّتين".
وعن عمر -رضي الله عنه-: "موت ألف عابد قائم الليل صائم النَّهار أهون من موت عالمٍ بصيرٍ بحلال الله وحرامه".
ولله درُّ القائل:
تعلَّم فليس المرء يولد عالمًا***وليس أخو علم كمن هو جاهلُ
وإنَّ كبير القوم لا علم عنده***صغيرٌ إذا التفت عليه الجحافل
وإنَّ صغير القوم إن كان عالمًا***كبيرٌ إذا ردت إليه المحافل
مجالس الذِّكر (رياض الجنَّة)
حلقات الذِّكر ومجالسه مظهرٌ من مظاهر العلم والتَّثقيف؛ لأنَّها خيرُ المجالس وأزكاها، وأعلاها منزلةً عند الله -عزَّ وجلَّ- .
قال -صلَّى الله عليه وسلَّم-: «وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السَّكينة، وغشيتهم الرَّحمة وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده. ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه» [أخرجه مسلم 2699].
ومن شرف مجالس الذِّكر وعلو مكانتها أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُباهي بالذَّاكرين الملائكة، كما ثبت عن أبي سعيد الخدري قال: خرج معاوية على حلقةٍ في المسجد فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: أمَّا إنِّي لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أقل عنه حديثًا منِّي، وإنَّ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- خرج على حلقةٍ من أصحابه، فقال: «ما أجلسكم؟»، قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ! ما أجلسنا إلا ذاك، قال: «أمَّا إنَّي لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنَّه أتاني جبريل فأخبرني؛ أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يباهي بكم الملائكة» [رواه مسلم 2701].
ومن ثمار مجالس الذِّكر أنَّها تحفظ اللسان وتصونه عن الغيبة والفحش والباطل.
- Digg
- Delicious
- StumbleUpon
- Facebook